فصل: تفسير الآيات (10- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

منزلة الثقة بالله تعالى:
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الثقة بالله تعالى:
قال صاحب المنازل: الثقة: سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض وسويداء قلب التسليم وصدر الباب بقوله تعالى لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص: 7] فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجرياته إلى حيث ينتهى أو يقف ومراده: أن الثقة خلاصة التوكل ولبه كما أن سواد العين: أشرف ما في العين وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض.
وكذلك قوله: سويداء قلب التسليم فإن القلب أشرف ما فيه سويداؤه وهي المهجة التي تكون بها الحياة وهي في وسطه فلو كان التفويض قلبا لكانت الثقة سويداءه ولو كان عينا لكانت سوادها ولو كان دائرة لكانت نقطتها.
وقد تقدم أن كثيرا من الناس يفسر التوكل بالثقة ويجعله حقيقتها ومنهم من يفسره بالتفويض ومنهم من يفسره بالتسليم فعلمت: أن مقام التوكل يجمع ذلك كله فكأن الثقة عند الشيخ هي روح والتوكل كالبدن الحامل لها ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان. والله أعلم.
فصل:
قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: درجة الإياس وهو إياس البعد عن مقاومات الأحكام ليقعد عن منازعة الأقسام ليتخلص من قحة الإقدام يعني أن الواثق بالله لاعتقاده: أن الله تعالى إذا حكم بحكم وقضى أمرا فلا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه فمن حكم الله له بحكم وقسم له بنصيب من الرزق أو الطاعة أو الحال أو العلم أو غيره: فلابد من حصوله له ومن لم يقسم له ذلك: فلا سبيل له إليه ألبتة كما لا سبيل له إلى الطيران إلى السماء وحمل الجبال فبهذا القدر يقعد عن منازعة الأقسام فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته والفرق بين قوله: مقاومة الأحكام و: منازعة الأقسام أن مقاومة الأحكام: أن تتعلق إرادته بعين ما في حكم الله وقضائه فإذا تعلقت إرادته بذلك جاذب الخلق الأقسام ونازعهم فيها.
وقوله: يتخلص من قحة الإقدام أي يتخلص بالثقة بالله من هذه القحة والجرأة على إقدامه على ما لم يحكم له به ولا قسم له والله سبحانه أعلم.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: درجة الأمن وهو أمن العبد من فوت المقدور وانتقاض المسطور فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين وإلا فبلطف الصبر.
يقول: من حصل له الإياس المذكور حصل له الأمن وذلك أن من تحقق بمعرفة الله وأن ما قضاه الله فلا مرد له ألبتة: أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له وأمن أيضا من نقصان ما كتبه الله له وسطره في الكتاب المسطور فيظفر بروح الرضى أي براحته ولذته ونعيمه لأن صاحب الرضى في راحة ولذة وسرور كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى وجعل الهم والحزن في الشك والسخط فإن لم يقدر العبد على روح الرضى ظفر بعين اليقين وهو قوة الإيمان ومباشرته للقلب بحيث لا يبقى بينه وبين العيان إلا كشف الحجاب المانع من مكافحة البصر.
فإن لم يحصل له هذا المقام حصل على لطف الصبر وما فيه من حسن العاقبة كما في الأثر المعروف: إن استطعت أن تعمل لله بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر ما تكره النفس خيرا كثيرا.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: معاينة أزلية الحق ليتخلص من محن القصود وتكاليف الحمايات والتعريج على مدارج الوسائل قوله: معاينة أزلية الحق أي متى شهد قلبه تفرد الرب سبحانه وتعالى بالأزلية غاب بها عن الطلب لتيقنه فراغ الرب تعالى من المقادير وسبق الأزل بها وثبوت حكمها هناك فيتخلص من المحن التي تعرض له دون القصود ويتخلص أيضا من تعريجه والتفاته وحبس مطيته على طرق الأسباب التي يتوسل بها إلى المطالب وهذا ليس على إطلاقه فإن مدارج الوسائل قسمان: وسائل موصلة إلى عين الرضى فالتعريج على مدارجها معرفة وعملا وحالا وإيثارا هو محض العبودية ولكن لا يجعل تعريجه كله على مدارجها بحيث ينسى بها الغاية التي هي وسائل إليها وأما تخلصه من تكاليف الحمايات فهو تخلصه من طلب ما حماه الله تعالى عنه قدرا فلا يتكلف طلبه وقد حمي عنه ووجه آخر: وهو أن يتخلص بمشاهدة سبق الأزلية من تكاليف احترازاته وشدة احتمائه من المكاره لعلمه بسبق الأزل بما كتب له منها فلا فائدة في تكلف الاحتماء نعم يحتمي مما نهى عنه وما لا ينفعه في طريقه ولا يعينه على الوصول. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ}.. الآية.
الخطاب في قوله: {وَلَكَ} يدل على أن المخاطب واحد وفي قوله: {لا تَقْتُلُوهُ} يدل على أنه جماعة.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه.
الأول: أن صيغة الجمع للتعظيم.
الثاني: أنها تعني فرعون وأعوانه الذين هموا معه بقتل موسى فأفردت الضمير في قولها {لك}؛ لأن كونه قرة عين في زعمها يختص بفرعون دونهم وجمعته في قولها {لا تقتلوه} لأنهم شركاء معه في الهمّ بقتله.
الثالث: أنها لما استعطفت فرعون على موسى التفت إلى المأمورين بقتل الصبيان قائلة لا تقتلوه معللة ذلك بقولها: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}. اهـ.

.تفسير الآيات (10- 13):

قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر عن حال من لقيه، أخبر عن حال من فارقه، فقال: {وأصبح} أي عقب الليلة التي حصل فيها فراقه {فؤاد أم موسى} أي قلبها الذي زاد احتراقه شوقًا وخوفًا وحزنًا، وهذا يدل على أنها ألقته ليلًا {فارغًا} أي في غاية الذعر لما جلبت عليه من أخلاق البشر، قد ذهب منه كل ما فيه من المعاني المقصودة التي من شأنها أن يربط عليها الجأش؛ ثم وصل بذلك مستأنفًا قوله: {إن} أي إنه {كادت} أي قاربت {لتبدي} أي يقع منها الإظهار لكل ما كان من أمره، مصرحة {به} أي بأمر موسى عليه السلام من أنه ولدها ونحو ذلك بسبب فراغ فؤادها من الأمور المستكنة، وتوزع فكرها في كل واد {لولا أن ربطنا} بعظمتنا {على قلبها} بعد أن رددنا إليه المعاني الصالحة التي أودعناها فيه، فلم تعلن به لأجل ربطنا عليه حتى صار كالجراب الذي ربط فمه حتى لا يخرج شيء مما فيه؛ ثم علل الربط بقوله: {لتكون} أي كونًا هو كالغريزة لها {من المؤمنين} أي المصدقين بما وعد الله به من نجاته ورسالته، الواثقين بذلك.
ولما أخبر عن كتمها، أتبعه الخبر عن فعلها في تعرف خبره الذي أطار خفاؤه عليها عقلها، فقال عاطفًا على {وأصبح} {وقالت} أي أمه {لأخته} أي بعد أن أصبحت على تلك الحالة، قد خفي عليها أمره: {قصيه} أي اتبعي أثره وتشممي خبره برًا وبحرًا، ففعلت {فبصرت به عن جنب} أي بعد من غير مواجهة، ولذلك قال: {وهم لا يشعرون} أي ليس لهم شعور لا بنظرها ولا بأنها أخته، بل هم في صفة الغفلة التي هي في غاية البعد عن رتبة الإلهية.
ولما كان ذلك أحد الأسباب في رده، ذكر في جملة حالية سببًا آخر قريبًا منه فقال: {وحرمنا} أي منعنا بعظمتنا التي لا يتخلف أمرها، ويتضاءل كل شيء دونها {عليه المراضع} جمع مرضعة، وهي من تكترى للرضاع من الأجانب، أي حكمنا بمنعه من الارتضاع منهن، استعار التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة؛ قال الرازي في اللوامع: تحريم منع لا تحريم شرع.
ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم، فلم يستغرق التحريم الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له، ليكون ذلك سببًا لرده إليها، فلم يرضع من غيرها فأشفقوا عليه فأتتهم أخته فقالوا لها: هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ {فقالت} أي فدنت أخته منه بعد نظرها له فقالت لهم لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه لما عرضوا عليه المراضع فأبى أن يرتضع من واحدة منهن: {هل} لكم حاجة في أني {أدلكم على أهل بيت} ولم يقل: على امرأة، لتوسع دائرة الظن {يكفلونه لكم} أي يأخذونه ويعولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم، وزادتهم رغبة بقولها: {وهم له ناصحون} أي ثابت نصحهم له، لا يغشونه نوعًا من الغش؛ قال البغوي: والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد فكادت بهذا الكلام تصرح بأن المدلول عليها أمه، فارتابوا من كلامها فاعتذرت بأنهم يعملون ذلك تقربًا إلى الملك وتحببًا إليه تعززًا به، فظنوا ذلك، وهذا وأمثاله بيان من الله تعالى لأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا هو سبحانه، فلا يصح أن يكون غيره إلهًا، فلما سكنوا إليها طلبوا أن تدلهم، فأتت بأمها فأحللنا له رضاعها فأخذ ثديها فقالوا: أقيمي عندنا، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي.
إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي، وأظهرت التزهد فيه نفيًا للتهمة، فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها، والآية من الاحتباك: ذكر التحريم أولًا دليلًا على الإحلال ثانيًا، واستفهام أخته ثانيًا دليلًا على استفهامهم لها أولًا، وسره أن ذكر الأغرب من أمره الأدل على القدرة، ولذلك سبب عما مضى قوله: {فرددناه} أي مع هذا الظاهر في الكشف لسره الموجب للريبة في أمره، ومع ما تقدم من القرائن التي يكاد يقطع بها بأنه من بني إسرائيل، منها إلقاؤه في البحر على تلك الصفة، ومنها أن المدلول عليها لإرضاعه من بني إسرائيل، ومنها أنه قبل ثديها دون غيرها من القبط وغيرهم، بأيدنا الذي لا يقاويه أيد، ولا يداني ساحته شيء من مكر ولا كيد، من يد العدو الذي ما ذبح طفلًا إلا رجاء الوقوع عليه، والخلاص مما جعل في سابق العلم إليه {إلى أمه} وكان من أمر الله- والله هو غالب على أمره- أنه استخدم لموسى- كما قال الرازي- عدوه في كفالته وهو يقتل العالم لأجله؛ ثم علله بقوله: {كي تقر عينها} أي تبرد وتستقر عن الطرف في تطلبه إلى كل جهة وتنام بإرضاعه وكفالته في بيتها، آمنة لا تخاف، وقرة العين بردها ونومها خلاف سخنتها وسهرها بإدامة تقليبها، قرت عينه تقر- بالكسر والفتح- قرة، وتضم، وقرورًا: بردت سرورًا وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وأقر الله عينه وبعينه، وعين قريرة وقارة، وقرتها ما قرت به، وقر بالمكان يقر- بالفتح والكسر- قرارًا وقرورًا وقرًا وتقرة: ثبت واستكن، وأصل قرة العين من القر وهو البرد، أي بردت فصحت ونامت خلاف سخنة عينه، وقيل: من القرار، أي استقرت عيني، وقالوا: دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارة، فمعنى أقر الله عينك من الفرح وأسخنها من الحزن، وهذا قول الأصمعي، وقال أبو عباس: ليس كما ذكر الأصمعي بل كل دمع حار، فمعنى أقر الله عينك: صادفت سرورًا فنامت وذهب سهرها، وصادفت ما يرضيك، أي بلغك الله أقصى أملك حتى تقر عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما يديك، قالوا: ومعنى قولهم: هو قرة عيني: هو رضى نفسي، فهي تقر وتسكن بقربه فلا تستشرف إلى غيره {ولا} أي وكيلًا {تحزن} أي بفراقه {ولتعلم} أي علمًا هو عين اليقين، كما كانت عالمة به علم اليقين، وعلم شهادة كما كانت عالمة علم الغيب {أن وعد الله} أي الأمر الذي وعدها به الملك الأعظم الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله {حق} أي هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع إياه.
ولما كان العلم هو النور الذي من فقده لم يصح منه عمل، ولم ينتظم له قصد، قال عاطفًا على ما تقديره: فعلمت ذلك برده عين اليقين بعد علم اليقين: {ولكن أكثرهم} أي أكثر آل فرعون وغيرهم {لا يعلمون} أي لا علم لهم أصلًا، فكيف يدعون ما يدعون من الإلهية والكبرياء على من يكون الله معه. اهـ.